دليل الداعية الرّوش |
زمان حين كانت كلمة «شيخ» تذكر علي مسامعي كان يغمرني الخشوع والرهبة، لكن في الأعوام الأخيرة أصبح الأمر بسيطاً علي طريقة «كيف تكون داعية في خمسة أيام دون معلم؟»، وصرت أفتح فمي علي آخره حين أري الملايين مصلوبين أمام شاشات الفضائيات لمشاهدة طائفة «الدعاة الجدد»، الذين لا يمكن تصنيفهم كفقهاء أو ممثلين أو مندوبي مبيعات، أو محترفي التنويم المغناطيسي، فربما كانوا كل هؤلاء في وعاء واحد. وطيلة سنوات تعاملت مع الأمر باعتباره «ظاهرة كونية» تماماً كالزلازل والبراكين والأعاصير، بينما كانت «لعبة الدعوة» تتدحرج من النمط الأزهري الرصين، إلي «حداثة» رعتها الفضائيات، حتي اتخذت الظاهرة أبعاداً جديدة، وامتد تأثيرها إلي طبقات طالما استعصت علي الاختراق. وبالطبع فإن هؤلاء الدعاة الجدد بدوا أكثر حداثة من الدعاة التقليديين، ليس فقط بمظهرهم العصري الجذاب، ولا لغتهم الأقرب للغة الجديدة التي يستخدمها الشباب «الروش طحن»، ولا حتي في مضمون ما يطرحه هؤلاء من أفكار، بل انحصرت موهبتهم أساساً في الطرق المبتكرة للتواصل مع جمهور الشباب المغيب بفعل الإحباط، والتي تتماهي مع مهارات البرمجة اللغوية والعصبية، وشطارة مندوبي المبيعات. بعد ذلك ظهرت موجة جديدة من دعاة «مابعد الحداثة» يحملون سمات مغايرة جذرياً، منهم علي سبيل المثال شخص يدعي «معز مسعود»، وهو شاب في العشرينيات اقتصرت خبراته ودراسته علي «البيزنيس»، ويصف أحوال الشباب بالحيرة بين «حلال خنيق وحرام مُبهر»، ويروي في موقعه قصة توبته وتحوله من عازف إلي داعية، بعد وفاة عدد من أصدقائه قائلاً: «قلت له يا رب، أنا واقعي وأنا تبت، فأنا مش هاغلط أي غلطة كبيرة تاني في حياتي، هالعب «جيم» علشان يبقي شكلي كويس، وعلشان صحتي برضو مش هيخليني محتاج لحاجات تانية، وأنا مش هغلط مع ماما تاني أبدا وأنا يارب بانسي الصلاة غصب عني لكن مش هانام قبل ما اكون صليت الخمس صلوات إن شاله حتي أصليهم كلهم قضا، وكمان مش هاكسر قلب بنت تاني أبداً، لكن لو حبيت واحدة هابقي أقول لك عليها، وإن شاء الله نشوف بقي إيه اللي نقدر نعمله»، ويضيف: «آه، مش هاقدر أبطل السجاير دلوقت، لكن أوعدك يارب إني في خلال سنتين هاكون بطلتها». هكذا يتحدث الأخ معز مسعود الذي أصبح بقدرة قادر ضيفاً دائماً علي البرنامج الناجح «٩٠ دقيقة» الذي تبثه فضائية «المحور»، لنكتشف أننا إزاء حالة غير مسبوقة من الإسفاف في تاريخ الدعوة، مما يطرح سؤالاً عما إذا كان نبل المقصد يبيح تصدي أي عابر سبيل له؟، وهل يصح مثلاً أن تفتح «خالتي» مستشفي للتوليد، لأنها أنجبت عشرة أبناء، وبالتالي أصبحت خبيرة في مسائل الحمل والولادة والرضاعة؟. يبدو الأمر مأساوياً بالفعل أن تصبح الدعوة للإسلام مهنة من لا مهنة له ووسيلة للشهرة والنجومية والتربح دون أي مؤهلات يفرضها الأزهر علي طلابه، تبدأ بحفظ القرآن، والتبحر بعلوم الحديث واللغة العربية وأصول الفقه والجرح والتعديل، وأن يكون «ذا علم وحلم ووقار وسكينة»، وهو ما يتناقض مع لغة «الخنيق والطحن» التي لا يبرر شيوعها أن نتدني إليها، ونجعلها عنواناً للدعوة. سيقول قائل إنه ليس مفتياً أو فقيهاً، بل مجرد «داعية»، وكأن الدعوة أمر هين يمكن أن يضطلع بها مندوبو المبيعات، فضلاً عن أن البسطاء لن يدركوا الفرق بين الداعية والفقيه، وسيختلط عليهم الأمر، خاصة في ظل الإلحاح الإعلامي الذي تمارسه الفضائيات وفق أمزجة أصحابها. ولعل أبسط محاولة لرصد مناخ الدعوة وعشوائيتها في مصر، ستضعنا أمام حقيقة مرعبة مفادها أنها تتنامي بشكل يبعث علي التساؤل عن الوجهة التي تدفعنا إليها مؤسسة شؤون القداسة، وكذا عن المدي الذي يمكن أن يقودنا إليه هذا السرداب الذي يمسك بمفاتيحه من يزعمون أنهم «وكلاء حصريون للسماء». |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق